
إخراج: فريدريكو فيلليني
سيناريو: فريدريكو فيلليني، إنيو فيانو، توليو بينيللي، برونيلو روندي
تمثيل: مارسيلو ماستروياني، كلاوديا كاردينالي
تصوير: جيانو ديفنانزو
موسيقى: نينو ريتا
البلد المنتج: إيطاليا
أهم الجوائز: أوسكار أفضل فيلم أجنبي
ما صنعه المخرج الإيطالي الشهير فيدريكو فيلليني برائعته الخالدة ” ثمانية ونصف ” يتعدى ما يمكن أن يتصوره العقل، بل أنه أيضا يتخطى قوانين الفيزياء والطبيعية، فقليل جدا إن لم يكن مستحيلا أن نرى شخصا يـصنع مـن فشله نجـاح. الأحلام، الذكريات، الفانتازيا والواقع وبعدة مسارات متشابكة مع بعضها البعض وحبكة فوق حبكة وخدع بصرية مؤثرة على حسب ذلك الزمان البعيد وبإتاهة المشاهد من خلال مشاهد متلاحقة غير مفهومة بالتحليل التقليدي المتعارف عليه، وإرباك المشاهد من خلال عرض فيلم لا يملك قصة بيد امتلاكه لـ ” موضوع “، كل هذه الأمور قد تربك وتخيف أي مخرج لمجرد التفكير بصناعة فيلم عنها، ولكن فيلليني بعبقريته وذكاءه المتقد لا يجد مشكلة في هذا الأمر، بل أنه يرى فيه تشجيعا له ليتخطى مشكلة السرد التقليدي التي دائما ما تقف عائقا بينه وبين أفلامه ” الشخصية ” والتي بدأها تقريبا منذ فيلمه الرائع ” ليالي كابريا “. ثمانية ونصف ببساطة هو ثاني أعظم فيلم شاهدته في حياتي بعد رائعة أورسون ويلز ” المواطن كين “. ثمانية ونصف رحلة شاعرية إلى أعماق الإنسان واستغراق بأحلامه وذكرياته وتخيلاته وواقعه البائس، ستستمتع بها بشكل كبير وستحاول دائما العودة إلى تلك الرحلة كل ما سمح لك الوقت بذلك.
برأيي الشخصي أن أعظم ما في هذا الفيلم هو السيناريو الخطير، الذي قام بكتابته فيدريكو فيلليني بمساعدة السيناريست إنيو فلاينووآخرين. السيناريو عظيم بدقة رسمه لملامح ونفسيات شخصيات الفيلم الكثيرة والمليئة بالتعقيد، السيناريو عظيم بوجود العديد من الخيوط الدرامية فيه والمتشابكة مع بعضها البعض وقدرته على وضع خطوط عريضة وفواصل بين الذكريات، الأحلام، التخيلات والواقع دون إتاهة المشاهد بأي منها بالرغم من إرباكه، السيناريو عظيم بالمدلولات الرمزية والإيحاءات العميقة والتحليل النفسي للشخصية الرئيسة جيدو، بالرغم أنه في معظم هذه النقاط يشترك الإخراج معه بإظهارها، إلا إن الأصل الأول فيها هو السيناريو. ليس فيلليني فقط مع إنيو فلاينو هما كاتبي السيناريو، هما اللذان قام بكتابة القصة وساعدهما على تحويلها إلى سيناريو توليو بينيلي و برونيللو روندي. فيدريكو فيلليني قام بصناعة هذا الفيلم من أجل نفسه وذلك بعد أن أحس بالعجز الفني وأن فكرته التي كان من الممكن أن يخرجها هربت منه فلجأ إلى الحيلة بصناعة هذا الفيلم حول مخرج يوهم جميع من حوله بأنه يملك الفيلم وأنه مستعد لتصويره خلال أسابيع فقط والحقيقة أنه لا يملك أدنى فكرة عما يعمله.
لتفهم ثمانية ونصف فهما واضحا، عليك أولا أن تفهم فيدريكو فيلليني. نحن أمام مخرج استثنائي بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معاني ودلالات. فيدريكو فيلليني يصور حياته الشخصية وأحلامه حتى أن الكاتب الإيطالي البرتو مورفيا قال ” إن هذا المخرج يصور أحلامه “، وقال أيضا عنه الناقد الأمريكي بيتر هاركورت ” إن لـ فيلليني حياة خاصة سرية لا تظهر إلا في أفلامه “، فمهما بلغت ثقافتك السينمائية ومهما على فهمك وحسك السينمائي، فهي لا تنفع مع أفلام فيدريكو فيلليني خاصة أفلامه التي بعد عام 1960 والتي بدأها برائعته ” الحياة الحلوة “، لأنها بشكل كبير تعتمد على أحلامه وذكرياته عن ماضيه البائس. فيدريكو فيلليني وكما تخطى قوانين الفيزياء تخطى كذلك قوانين السينما التقليدية والتي يعتمدها اغلب المخرجين، ويخرج عن نطاق المألوف بهذا الفيلم الذي ابتدأ من خلاله بهجر طريقة السرد التقليدية وإلى آخر أفلامه، فيلليني على الرغم من انتقاده من النقاد من قبل بدءه بهذه الطريقة على أفلامه السابقة والتي أرى من أهمها هو ” ليالي كابريا ” و ” الطريق ” وذلك لاغتياله للواقعية الإيطالية، انتقد مرة أخرى هنا وذلك لتصويره حياته الشخصية حتى أن أفلامه لا تكاد تفهم، بالرغم من هذا يرد فيلليني ببساطة بأنه يخرج الأفلام لإرضاء نفسه فحسب.




يبدأ فيلم ثمانية ونصف بمشهد ازدحام للسيارات وهنالك نقابل بطلنا جيدو إنسلمي ( مارسيلو ماستريوني )، وفجأة يغطي سيارته دخان كثيف وبينما جيدو يحاول الخروج قبل أن يختنق ويضرب بيديه ورجليه الزجاج ليكسره يكتفي الناس بالنظر إليه وبعضهم يكون مشغولا مع عاهرة معه بالسيارة ولكن أيا منهم لم يحاول مساعدته، مع ذلك يستطيع جيدو الخروج من المأزق ولكنه عند خروجه كان قد استطاع الطيران والتحليق بالجو وظل محلقا بالجو حتى استطاع أحد الرجال من الإمساك به ومن ثم سقط جيدو على وجهه سقوطا مريعا لنكتشف أن هذا ليس إلا كابوس من كوابيس جيدو التي لا تنتهي، بذلك المشهد الخلاق والغير قابل للتكرار والنسخ وإن حصل ذلك فلن يكون بنفس السحر ونفس الطعم ونفس العظمة والمغزى .. نعم المغزى، فيلليني شرح الفيلم كله لنا بذلك المشهد الذي لا يزيد عن خمس دقائق فقط، وتتوالى بعده العديد من المشاهد الواقعية، التخيلات، الذكريات والأحلام لتتشكل لدينا صورة مكبرة بتلسكوب عن حياة جيدو كإنسان أكثر منه كمخرج وإحقاقا للحق لنقل صورة مكبرة عن فيدريكو فيلليني.
كما أن في الفيلم إخراج عظيم , هناك أداء خلاق من قبل طاقم العمل وعلى رأسهم مارسيلو ماستريوني. أداءه الغير متكلف وطرق تخلصه من الممثلين الذين يعملون معه بالفيلم والذين يريدون معرفة أدوارهم، وتمويهه على المنتج الذي أنفق ملايينه لفيلم لم ولن يرى النور، تجعلك قريبا من صناعة الأفلام ويجعلك تقدر عمل المخرج وتتأكد على أهميته في صناعة الأفلام كما يجعلك أيضا تتعجب من هذا المخرج المتمكن من عمله ومتمكن من تفاصيل فيلمه الذي لا يملك فكرته بعد، للأسف الشديد لا أعرف الكثير عن أدوار مارسيلو لذا لن أستطيع أن أقول أن هذا هو أفضل أدوراه ولكنه من الأدوار الرائعة التي رأيتها ومن الصعب جدا نسيانها. الأدوار النسائية كانت ملح الفيلم وسكره بنفس الوقت، والممثلات اللواتي قمن بها هن كلوديا كاردنيل بدور كلوديا وهي الفتاة التي يعشقها جيدو بأحلامه وبحياته وهناك أنوك إيمي وهي تقوم بدور لوسيا زوجة جيدو وأيضا ساندرا ميلو التي تقوم بدور كارلا عشيقة جيدو والتي لا يعلم أحد عن هذا الأمر وهناك أيضا إدرا غيل والتي تقوم بدور سارجانا وهي عاهرة كان يعرفها جيدو عندما كان طفلا يدرس بالمدرسة الكاثلوكية، هؤلاء النسوة قمن بتلك الأدوار وقد كن رائعات جدا ومتمكنات من شخصياتهن لما يملكنه من موهبة وأدوات للدخول على شخصياتهن. سيكون لي كلام مفصل حول الشخصيات النسائية في الفيلم في موقع آخر من هذه المراجعة. على أية حال قد لا يعجب الأداء الكثير خاصة أن الفيلم ينتمي إلى حقبة زمنية انتهت ومنذ زمن طويل مدرستها التمثيلية والمتمثلة بالمدرسة الكلاسيكية خاصة أيضا وأن العديد من المشاهدين قد تأثروا بالمدرسة التي أسسها مارلون براندو في السينما ” المدرسة الأسلوبية “.
لا تستغرب كثيرا إذا قلت لك إن الفيلم في أجمل حالاته موسيقيا، وأعتقد أن استغرابك سيزول عندما تعرف أن مؤلف موسيقى هذا الفيلم هو المايسترو نينو روتا الذي عذب قلوبنا بموسيقاه الخالدة بتحفة كوبولا ” الأب الروحي “. فيلليني رغم أنه كسب ورقة رابحة بإضافة موسيقي عظيم كـ نينو روتا إلى طاقمه الفني الهائل، إلا أنه شحن فيلمه بأجمل السيمفونيات الكلاسيكية العذبة، بل أني أتذكر أحد الأشخاص قال ” أنه لا يمكن فهم الفيلم بدون فهم موسيقاه “، هذا الكلام إن دل على شيء فإنما يدلنا على مخرج من الطراز ” الكوبريكي ” الذي لا يضع الأغاني في أفلامه عبثا بل أن كل شيء له دلالة ومقربا لفهم الفيلم بالشكل الذي يريده.
قد يكون أكثر شيء غامض بالفيلم بالنسبة للبعض هو مشهد النهاية، بالرغم أنه ليس كذلك أبدا. لا أحب حرق الفيلم على من لم يشاهده ولكن أغلب ما يحصل بهذا الفيلم إيحائي ورمزي إلى شيء معين. أتمنى ممن شاهد الفيلم ولم يفهم النهاية أن يركز على هذا الكلام ، على المشاهد أن يطبق المقولة التالية ـ وكما يقولون عشاق الفيلم الرائع الماتريكس ـ ” حرر عقلك “، أخرج نفسك من العالم الفيزيائي الذي تعيشه وأنسى المعادلات الرياضية التي تقول لك ” واحد زائد واحد يساوي اثنين “، لتقل ” واحد زائد واحد يساوي أحدى عشر “، وعندها فقط ستفهم هذا الفيلم المليء بالأسرار والحكم البليغة والإنسانية المفرطة حتى كاد أن يجعل الإنسان يُعبد، حاول أن تشاهد هذا الفيلم أكثر من مرة، لا تكتفي بمشاهدة واحدة فقط أو حتى مشاهدتان، هناك من شاهد الفيلم أكثر من عشرين مرة ويقول أنه لا يزال يبحر في أعماقه المليئة بالكنوز التي لم يكتشفها بعد.
أحد أعظم المشاهد الكلاسيكية في تاريخ السينما، هو المشهد الذي جمع جيدو مع جميع النساء اللواتي عرفهن بحياته وكل من شغلت قلبه ـ ولو للحظات ـ في بيت واحد. في ذلك المشهد يبلغ تأثير أحلام فيلليني وفانتازياه ذروتها بالفيلم، فهو جمع نساءه كلهن وجعلن همّن الوحيد هو إرضاء جيدو الذي كان يعيش كالملك بينهن والتي تحاول التمرد عليه يقوم بمعاقبتها. لقد نجح فيلليني بامتياز بإظهار ما يؤمن به جيدو حول علاقته بالنساء، وإظهار حبه الجارف لزوجته ولكن مشكلته الوحيدة أنه لا يعرف كيف يعبر عنه لها. في هذا المشهد تظهر لنا الرسالة الأصلية للفيلم، ويظهر لنا جيدو كرجل يريد أن يتخلص من علاقاته السابقة وحتى ذكرياته وذلك ليتمكن من حب زوجته. لا ينكر فيلليني والذي هذا الفيلم عنه هو بالذات أنه لم يمكن دائما وفيا مع زوجته التي شاركته إلهامه ونجاحه في مسيرته الناجحة، ما حصل لـ فيلليني ها هو يحصل لـ جيدو. من الأمور العظيمة التي تجعلني أعجب بالفكر العظيم الذي يقدمه هذا الفيلم، هو أنه جعل الزواج ينتصر في الأخير وأن جميع العلاقات الأخرى هي مجرد علاقات عابرة ولا يبقى للرجل إلا زوجته التي تعمل من أجله وتتعب نفسها من أجل راحته، هذا الأمر كما يتضح في نهاية الفيلم، يتضح في هذا المشهد العظيم الذي أراه من أفضل ما رأيت في حياتي من مشاهد مستقلة لوحدها في تركيبتها عن المشاهد الأخرى في الأفلام .
بقي لنا أن نتكلم حول سبب تسمية الفيلم بهذا العنوان الغريب بدلا من العنوان الذي كان المفترض أن يكون اسمه وهو ” الارتباك الجميل “. قبل هذا الفيلم قام فيلليني بإخراج ستة أفلام لوحده وهي ( الشبح الأبيض ) 1952، ( المتسكعون ) 1953، ( الطريق ) 1954، ( المحتالون ) 1955، ( ليالي كابريا ) 1957، ( الحياة الحلوة ) 1960. وقام بالتعاون مع مخرجين آخرين لإخراج ثلاثة أفلام أخر هي ( أضواء فاريتي ) 1950، ( الحب في المدينة ) 1953، ( باكوون 70 ) 1962. كل فيلم من الأفلام الستة التي أخرجها تعتبر فيلما كاملا يحسب لسيرة فيدريكو فيلليني أما بالنسبة للأفلام الثلاثة التي أخرجها مع مخرجين آخرين فيعتبر كل فيلم منها نصف فيلم، إذا أذا جمعنا ستة مع ثلاثة أنصاف يصبح العدد سبعة ونصف، وفيلمنا هذا أخرجه فيلليني لوحده فيحتسب كفيلم واحد، فإذا جمعنا سبعة ونصف مع واحد يصبح المجموع لدينا هو ثمانية ونصف. هذا العنوان هو أكبر دليل على أن هذا لا يتكلم إلا عن فيدريكو فيلليني وأن جيدو ليس إلا هو، وأن أوهامه وأوجاعه ليست إلا أوجاع فيلليني نفسه وليست إلا أحلامه وتخيلاته وذكرياته … وواقعه البائس الكئيب.
فيلم ثمانية ونصف ليس من الأفلام التي نراها في كل سنة حتى وإن كانت عظيمة. إنه فيلم يأخذ مكانته كل ما طال به الزمن وامتد، إنه كبقية الأعمال الخالدة العظيمة التي كان لها درعا مقاوما لصدأ الزمان ، هذه الأفلام قليلة جدا ويعد فيلمنا هذا هو من أهمها وأبرزها هو ” المواطن كين “. إن الصنعة التي صنع بها غير قابلة للإعادة والتكرار، بل أن هناك العديد من الأفلام التي حاولت استنساخ هذا الفيلم الرائع ولكن لم تستطع إبقاء السحر والجاذبية التي يتمتع بها، وقد يكون أشهر من حاول تقليده هو وودي ألان ولكنه بالتأكيد لم يفلح. لا أستطيع أن أنكر غرائبية ثمانية ونصف ولكني أتحدى أي شخص أن يقول بأن الفيلم سيء أو لم يقدم رؤية فيلليني بالشكل المطلوب. باختصار، فيلم ثمانية ونصف للمخرج الإيطالي الشهير فيدريكو فيلليني هو أفضل تكلم عن صناعة السينما، وهو ثاني أعظم فيلم شاهدته في حياتي، مباشرة بعد رائعة أورسون ويلز ” المواطن كين ” .
ملاحظة/ هذه المراجعة كتبت بتاريخ 2005/07/15